السبت، 31 مارس 2012

قاعدة (إذا اجتمع المباشر والمتسبب يضاف الحكم إلى المباشر)


   يتصور أن يجتمع في فعل ضار واحد مباشر ومتسبب، فمن يتحمل الضمان منهما، وهل يمكن أن يضمنا معاً ؟
    القاعدة التقليدية في الفقه الإسلامي والتي أخذ بها قانون المعاملات المدنية لدولة الإمارات في المادة (284) منه أنه : ( إذا اجتمع المباشر والمتسبب يضاف الحكم إلى المباشر ) . فما هو مضمون هذه القاعدة ، وهل هي قاعدة مطلقة ، أم ترد عليها إستثناءات في الفقه الإسلامي ، وهل أن القضاء الإماراتي أخذ بهذه الإستثناءات ؟ هذا ما سنراه في المطلبين التاليين .

 مضـمون القاعـدة

    يفهم من المادة (284) أعلاه ، وبحسب ما جاء في المذكرة الإيضاحية لقانون المعاملات المدنية الإماراتي ، أنه إذا اجتمع المباشر والمتسبب يضاف الحكم الذي يترتب على الفعل إلى الفاعل المباشر دون المتسبب ، وبعبارة أخرى يقدم المباشر في الضمان على المتسبب .
    فلو حفر رجل بئراً في الطريق العام فألقى أحد حيوان شخص آخر في ذلك البئر ضمن الذي ألقى الحيوان ولا شيء على حافر البئر لأن حفر البئر بحد ذاته لا يستوجب تلف الحيوان ولو لم ينظم إليه فعل المباشر وهو إلقاء الحيوان في البئر لما تلف الحيوان بحفر البئر فقل ولما كان فعل الإلقاء هو الوصف الأخير فقد أضيف التلف إليه .
ولو دل شخص لصاً على مال لآخر ليسرقه فسرقه ، فالضمان على السارق وليس على الدال شيء.
 ولو أمسك شخص بآخر وجاء ثالث فاغتصب ما مع الرجل من النقود، فالضمان على المغتصب المباشر وحده.
  

في الاستثناءات من القاعدة
     أن قاعدة ( إذا اجتمع المباشر مع المتسبب يضاف الحكم إلى المباشر)، بعيدة كل البعد عن الإجماع قديماً وحديثاً ، وهي قد خضعت لتطور كبير استثنى منها من الحالات ما أفقدها صفتها كقاعدة . فاستجابة لمقتضيات العدل والإنصاف قرر الفقه الإسلامي إلقاء عبء الضمان على المتسبب رغم اجتماعه مع المباشر ، عندما يكون المتسبب هو صاحب السبب المنتج للضرر ، وأهم هذه الآتي :
أ-   إذا كانت المباشرة مبنية على التسبب ومتولدة عنه :
        كما لو قضى القاضي بالقصاص بناءً على شهادة زور بالقتل ، وثبتت شهادة الزور بعدئذ ، حيث يسأل الشهود المتسببون في القتل وليس القاضي الذي حكم به ، ولا الشخص الذي قام بالتنفيذ .
       ومن تطبيقات ذلك ما روي أن عبيداً سرقوا ناقة لرجل فنحروها وأكلوها، فلما عرف عمر رضي الله عنه أن سيد العبيد كان يجيعهم ، درأ عنهم حد السرقة والزمه بدفع ضعف ثمن الناقة لصاحبها . كما أفتى ابن عباس في غلامين سرقا خمار امرأة وادعيا أنهما فعلا ذلك من الجوع ، بعدم قطع أيديهما وبتغريم ساداتهما ثمن الخمار . ففي المثالين تم تضمين سادة العبيد مع أنهم متسببين ، لأن مباشرة العبيد للضرر كانت مبنية على تسبب السادة ومتولدة عنه .
ب‌-إذا لابس الواقعة ما يقتضي التشدد مع المتسبب ، كالخيانة . فلو دل المودع عنده سارقاً على الوديعة فسرقها، ضمن الأول ذلك مع أنه متسبب والسارق مباشر. لا بل أنه ورد في شرح المجلة لعلي حيدر أنه ( قد أفتي بكون السعاية بغير حق موجبة للضمان ... وعليه لو اخبر أحد آخر معروفاً بنهب أموال الناس أن في المحل الفلاني حنطة لفلان أو له في الموضع الفلاني فرس من جياد الخيل فاخذ الحنطة أو الفرس بغير حق كان المخبر ضامناً. وإذا توفي الساعي يؤخذ الضمان من تركته... ) .
- أو لابسها ما يدعو إلى التخفيف عن المباشر ، كنقص أهليته ، فلو أرسل شخص صغيراً لحاجة فأتلف نفساً أو مالاً ، فالصغير ضامن من حيث المبدأ لأنه مباشر، لكن المتسبب الذي أرسله مقصر لذلك فهو أولى بالضمان منه لدى جانب من الفقه الإسلامي .
        كما ذهب جانب آخر منه إلى أن مسئولية الصغير المباشر للضرر مسئولية ضعيفة، وهي تنتقل إلى أي كبير متسبب أو مشارك في إحداث الضرر. كما جاء في شرح المجلة لعلي حيدر:( لو قال أحد للصبي اصعد إلى هذه الشجرة واقطف لي ثمراً فصعد الصبي إلى الشجرة وسقط عنها ومات لزمت الآمر الفدية ) و ( لو أمر أحد صبياً بإتلاف مال آخر فأتلفه الصبي لزم الضمان من مال الصبي. إلا أنه لما كان المأمور صبياً فله الرجوع على الآمر) .
ت‌-             إذا كان المتسبب متعمداً أو متعدياً والمباشر ليس كذلك. فلو توفر سوء القصد لدى المتسبب، كما لو قدم شخص لآخر طعاماً مسموماً فأكله وهو لا يعلم ، أو وضعه في ماء سبيل مباح فشرب منه من لا يعلم ، فالقاتل هو واضع السم في الطعام أو الماء ، وعليه القصاص أو الدية ، مع أن مباشر الأكل أو الشرب هو الضحية . وإذا كان التسبب من قبل التغرير بالمباشر وكان الأخير معذوراً ، كما لو قال شخص لآخر هذا طعامي فكله ، وأتضح أنه ليس له ، فلمالك الطعام مطالبته بقيمته مع أنه متسبب مقارنة بمن أكله وهو المباشر .
    ويتضح هنا أن القصد أو العمد ، إذا لم يكن مطلوباً لمساءلة محدث الضرر في الفقه الإسلامي ، فإن له دور مهم في تحديد من يتحمل الضمان من بين من باشر الضرر أو تسبب فيه عند اجتماعهم. وهذا يطابق ما عليه العمل في القانون الوضعي من أنه إذا اجتمع فعل الغير مع فعل المدعى عليه ، فإن المسئولية يمكن أن تقع على عاتق أحدهما متى استغرق فعله فعل الآخر ، ومن أهم صور هذا الاستغراق أن يكون فعل أحدهما عمدياً والآخر غير عمدي .  
    ومن تطبيقات هذا الإستثناء أيضاً ، ما إذا أكل إنسان طعاماً مغصوباً جاهلاً أنه مغصوب،  فإن الغاصب هو الضامن لتسببه بهذا الإتلاف دون المباشر ، ما لم يكن عديماً أو لم يقدر على تغريمه، فعندئذ يكون الضامن هو المباشر .
     وبهذا الاتجاه أخذ مجمع الفقه الإسلامي المنبثق عن منظمة المؤتمر الإسلامي في قرار له صدر بشأن حوادث السير ، جاء فيه : ( أ- مع مراعاة ما سيأتي من تفصيل ، أن المباشر ضامن ولو لم يكن متعدياً ، وأما المتسبب فلا يضمن إلا إذا كان متعدياً أو مفرطاً. ب- إذا اجتمع المباشر مع المتسبب كانت المسؤولية على المباشر دون المتسبب إلا إذا كان المتسبب متعدياً والمباشر غير متعد  ج- إذا اجتمع سببان مختلفان كل واحد منهما مؤثر في الضرر ، فعلى كل واحد من المتسببين المسؤولية بحسب نسبة تأثيره في الضرر، وإذا استويا أو لم تعرف نسبة أثر كل واحد منهما فالتبعة عليهما على السواء). 
ث- إذا لم يمكن تضمين المباشر ، لكونه مفلساً أو هارباً أو ليس له مال ظاهر يمكن الإستيفاء منه. فالضمان عندئذ ينتقل إلى عهدة المتسبب ، إذ فيه تضامن في المسؤولية لمصلحة المضرور. وهذا يتفق مع أسس ضمان الفعل الضار في الفقه الإسلامي ، التي تقوم على تأمين التعويض للمضرور بأي ثمن ، حتى لا يهدر حق معصوم . وقد ورد في
 ج- حالة المباشرة الملجئة ، وهي يمكن أن تحصل بصور متعددة :
1 - عندما يستخدم المتسبب المباشر كأداة صماء للضرر ، دون أن يكون للمباشر أي نشاط إيجابي وانعدم دوره في إحداث الضرر . فلو صدم شخص بسيارته مؤخرة سيارة تسير أمامه ، فاندفعت السيارة المصدومة إلى الأمام وصدمت السيارة التي أمامها ، كان سائق السيارة الأخيرة مباشر للضرر الذي لحق بالسيارة المتوسطة ومتسبب في الضرر الذي لحق بالسيارة التي في الأمام ، ومع ذلك يضمن سائق السيارة الأخيرة الضرر الذي أصاب السيارة الأولى مع أنه متسبب في الضرر الذي لحقها، دون سائق السيارة المتوسطة الذي هو مباشر للضرر الذي لحقها .
       ومن تطبيقات ذلك في الفقه الإسلامي ، ما رواه الزيلعي وغيره عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قضى في رجل نخس دابة عليها راكب فصدمت آخر فقتلته : أن الدية على الناخس لا على الراكب . وقد لاحظ البعض أن النخس أدى إلى نفور الدابة فتسبب بقتل إنسان، فجعل عمر رضي الله عنه الضمان على الناخس المتسبب ، دون الراكب المباشر، لأنه كان في تسببه نوع تعد ، ونظيف إلى ذلك أن فيه مباشرة ملجئة غير ذاتية من الراكب المباشر .
 2- في الإكراه الملجيء ، فلو أكره شخص آخر إكراهاً ملجئاً على إتلاف مال لثالث ، ضمن المكره في الرأي الراجح من الفقه الإسلامي ، رغم كونه متسبباً والمباشر هو المتلف . وبهذا أخذ قانون المعاملات المدنية الإماراتي في المادة (289/1) منه على أنه : ( يضاف الفعل إلى الفاعل لا الآمر ما لم يكن الفاعل مجبراً ، على أن الإجبار المعتبر في التصرفات الفعلية هو الإكراه الملجيء وحده ) .
    ومن أهم تطبيقات القضاء الإماراتي ، ما قضت به محكمة تمييز دبي في أكثر من قضية من ( أنه إذا اجتمع للضرر فعلان أحدهما بالمباشرة والآخر بالتسبب ، فالأصل إضافة الضمان إلى المباشر ما لم يكن المباشر مُلجأ إلى التسبب وليس فيه عدوان أو قائماً بواجب فرضه عليه القانون أو العرف ، وعندئذ يكون ضمان الضرر على المتسبب لإلجائه إلى المباشرة ) .
    ففي إحدى القضايا حملت محكمة الموضوع شرطة دبي المسئولية عن الأضرار الناجمة عن نزع بضاعة من يد مشتريها من قبل شرطة الشارقة بناء على كتاب صدر لها من شرطة دبي لا يمانع من تسليمها إلى أشخاص آخرين أدعوا ملكيتهم لها دون أمر قضائي . رفضت محكمة تمييز دبي الطعن المقدم لها ضد حكم محكمة الاستئناف المؤيد لحكم المحكمة الابتدائية بدبي ، وقد بني الطعن على أساس مسئولية شرطة الشارقة عن الضرر لأنها هي التي باشرت نزع البضاعة من المطعون ضده ، وقد جاء في حكم النقض أنه : ( لما كان التعدي على حيازة المطعون ضده للبضاعة – محل النزاع – قد فوَّت عليه الانتفاع بها ، وكان الثابت في الأوراق أن هذا الضرر قد وقع نتيجة اجتماع فعلين – أحدهما بالمباشرة من شرطة الشارقة بأخذها تلك البضاعة من مخازن المطعون ضده الواقعة في المنطقة التابعة لها وتسليمها إلى غيره، والفعل الآخر بطريق التسبب من جانب شرطة دبي بإصدار خطابها إلى شرطة الشارقة بعدم الممانعة من تسليم البضاعة المشار إليها إلى الجهة الشاكية ، ولما كانت شرطة الشارقة بما فعلته على نحو ما سبق مُلجأة إلى التسبب لقيامها بحكم وظيفتها بأداء واجب عليها وهو تنفيذ خطاب شرطة دبي وكانت غير مكلفة ببحث دواعي وظروف إصداره ، ومن ثم فإن ضمان الضرر يُضاف إلى شرطة دبي لأنها هي التي ألجأت إلى فعل المباشرة وكان فعلها هو المفضي إلى الضرر ... )  .
    كما جاء في حكم آخر لها : ( أن الشركة المستأنف ضدها (الطاعنة) كان منوطاً بها أعمال الصيانة والتجديد لواجهة المبنى الذي تشغل المنشأة المؤمن لصالحها من المستأنفة ( المطعون ضدها ) جزءاً منه وأنه أثناء قيام عمال المستأنف ضدها بإزالة الطلاء القديم لواجهة المبنى باستخدام اللهب ، كان من شأنه اتصال ذلك اللهب بالمواد التي تملأ  فواصل التمدد بين الحوائط والتي تتكون من شرائح الإسفنج أو اللدائن البلاستيكية ، تسبب اللهب المشار إليه في احتراقها دون اشتعال لهب وصاحب ذلك صدور الدخان الذي انتشر للخارج من جهة وتخلل المسافات البينية بين الجدران للداخل من جهة أخرى، وفي هذه الحالة كان يتعين تدخل الدفاع المدني والقيام بأعمال الإطفاء التي يقدرها رجال الدفاع المدني وفقاً للحال عن الانتقال إليها ، وإن ذلك التدخل من قبل الدفاع المدني كان عن طريق سكب المياه والتي تسربت إلى داخل الجزء الذي تشغله الشركة المتضررة وتزاول به نشاطها فتسبب ذلك في بعض الأضرار بالأجهزة والديكورات والأثاث ... وكان مفاد ما خلصت إليه محكمة الموضوع على نحو ما سبق أن الضرر الذي قضت بالتعويض عنه وقع نتيجة فعلين مجتمعين أحدهما بالمباشرة من جانب الدفاع المدني لاتصال المياه التي سكبتها على واجهة المبنى بهذا الضرر والآخر بالتسبب من جانب الشركة الطاعنة باستعمال عمالها دون حيطة اللهب في إزالة الطلاء من واجهة المبنى المذكور والذي تسبب عنه احتراق الفواصل بين الجدران وانتشار الدخان خارج وداخل ذلك المبنى ، ولما كان الدفاع المدني ملجأً ومضطراً وقائماً بواجبه بحكم طبيعة عمله إلى التدخل لإزالة مصادر الدخان ، ومن ثم فإن الضمان حينئذ يكون على المتسبب وهي من الواقعة المتقدمة ، حيث يرى المالكية أن الهارب الخائف إذا وطيء أو صدم شيئاً في اندفاعه أثناء الهرب فأتلفه ، فلا ضمان عليه والضمان على الذي أخافه .